
هل تعتقد أو تظن جنابك أن نظام الرئيس حسنى مبارك يعرف ذلك القسيس الإنجليزي المدعو توماس روبر مالتس الذي عاش ما بين الثلث الأخير من القرن الثامن عشر والثلث الأول من القرن الذي تلاه (1766 - 1834)؟!
لا أريد إساءة الأدب لكني أرى أن أعضاء الفريقين الرئيسيين الظاهرين على سطح نظام مبارك يتمتعون بوضع لا يسمح بمجرد الظن أنهم يعرفون القسيس الإنجليزي المذكور أو غيره، فإذا بدأنا من تحت فالفريق الأول، أي قطيع ذوى الأقفية والمؤخرات العريضة (أعرضت على حساب عقولهم) الذي يتولى حالياً مسئولية إدارة الآلة الإعلانية للنظام قد يخلط أغلبه بين اسم مالتس وفعل قلع المرء كامل هدومه حتى يصير عريانا «مالطاً».
أما الفريق الأعلى في النظام فإن نظرة واحدة على قلبه النابض، حيث لجنة السياسات والمحتاجات والسمسرة وخلافه، تكفي لإدراك حقيقة أن وقتهم أغلى وأثمن من أن يضيعوه في أية معرفة قد تعطلهم عن خطط نزح الثروات الحرام وأكل مال النبي شخصياً!!
عند هذا الحد أتوقف وأؤكد لحضرتك أنني متعاطف جداً مع زهقك وضجرك، بل أكاد أسمع لسان حالك يهتف: من يكون الأخ مالتس هذا الذي صدعت به رءوسنا، وما هي حكايته، ولماذا استحضار سيرته الآن؟!
وأستأذنك عزيزي القارئ أن أدخر قصة القسيس الإنجليزي إلى نهاية هذه السطور لعلها تكون جائزة معقولة مقابل صبر حضرتك معانا قليلاً حتى أشرح لك الملابسات التي استدعت إلى رأسي اسماً سيئ الذكر المرحوم مالتس، فقد طالعت أغلب أن لم يكن كل التعليقات على الخطاب الذي ألقاه الرئيس مبارك الأسبوع الماضي أمام ما يسمى المؤتمر القومي للسكان، ولفت نظري في هذه التعليقات أنه على رغم أن الفكرة المحورية (والوحيدة) في الخطاب المذكور ليست جديدة وسبق أن سمعناها من الرئيس نفسه بدل المرة ألف مرة، فإن ذلك لم يمنع أغلب المعلقين من التعبير عن دهشتهم وصدمتهم من إصرار مبارك على نقل عبء المسئولية عن الفشل والإخفاق والخراب المستعجل الذي ضرب مجتمع المصريين المحدثين ودفع أغلبهم للوقوف على حافة الموت جوعاً، من على كاهل نظام الحكم القاعد على قلوبنا منذ 27 عاماً، إلى الشعب بحجة أن هذا الأخير متهور وغير مسئول ولا يكف عن الخلفة والتناسل متحدياً - كما قال سيادته- «جهود الدولة لتوفير المزيد من الخدمات وتحقيق الأمن الغذائي (كما هو واضح جداً) وتوفير فرص العمل ومحاصرة البطالة (وصولاً) إلى تهديد الاستقرار الاجتماعي وأمن مصر القومي» حتة واحدة!!!
وقد بدا واضحاً أن هؤلاء الذين عبروا عن صدمتهم وفقعتهم من هذا الكلام يتحصنون خلف تلال متلتلة مما يعتبرونه حقائق دامغة تدحض وتسحق فكرة أن الزيادة السكانية هي سبب الوضع المأساوي الحالي الذي يتردى فيه المجتمع المصري على كل الأصعدة، وأن من بين هذه التلال تبرز بالذات حقيقتان يعتقد كثيرون أنها أوضح من أن يتجاهلها أي أعمى، أولاها أن زيادة السكان هي أشهر الحجج وأكثرها شيوعاً وابتذالاً على ألسنة نظم الحكم البليدة الفاشلة الفاسدة التي تقود مجتمعاتها إلى التخلف والانحطاط، فالزيادة السكانية لو كانت مشكلة (هناك فريق معتبر من الاقتصاديين لا يرونها كذلك) فإن حلها الوحيد هو النهوض والتقدم وتعظيم قدرة المجتمع على البناء والإنتاج من خلال سياسات تنموية منضبطة ورشيدة يذهب عائدها بطريقة عادلة إلى أعضاء المجتمع كافة وليس إلى كروش حفنة من النهابين الشرهين المعششين في بلاط الحاكم الديكتاتور وأسرته.
ولا دليل على هذه الحقيقة أقوى من أن بلدان الرفاه والتقدم التي تعيش معنا على هذا الكوكب لا تشكو من زيادة السكان، وإنما أغلبها يشكو ويعاني من مشكلة عكسية تتمثل في الانخفاض المضطرد لإعداد المواليد مما يهدد بتآكل الثروة البشرية لهذه البلدان.
فأما الحقيقة الثانية والأهم فتتلخص في أن قدرة الشعب المصري على التناسل، وكنتيجة مباشرة لسياسات الإفقار والتجويع الصارمة التي اتبعها النظام، تراجعت على نحو ملحوظ في العقدين الأخيرين، إذ هبطت نسبة الزيادة السنوية في عدد المواليد من 2.8 إلى 1.9 في المائة طبقاًً للإحصاءات الرسمية التي تؤكد أيضاً استفحال ظاهرة العنوسة في المجتمع وبلوغها مستوى خطراً لا سابق له في تاريخ البلاد.
ويخلص المنتقدون لخطاب مبارك من الحقيقتين السابقتين إلى أن النظام لا يقصد من إثارة موضوع الزيادة السكانية عمال على بطال ومعايرة الشعب المصري بالخلفة (مجرد الخلفة)، إلا «الاستعباط» وتبرير الوضع الكارثي الذي جر المجتمع إليه بعد ثلاثة عقود من الحكم بالعافية.
لكنهم في حمأة الغيظ والحماس فاتهم احتمال أن يكون للأفكار والعقائد دور في الموضوع، وهنا بالضبط تجلت الحاجة لاستدعاء سيرة القس الإنجليزي روبرت مالتس من صفيحة زبالة التاريخ، فهذا الرجل، الذي عينته شركة الهند الشرقية (اليد الطولي للاستعمار البريطاني في شبه القارة الهندية) مستشاراً لها، على تفاهته وضحالة اطروحاته وفتاواه في علم الاقتصاد، اكتسب شهرة مدوية بسبب نظرية وحشية أطلقها في مواجهة أفكار الثورة الفرنسية وشعاراتها عن الحرية والإخاء والمساواة بين البشر، اعتبرت تنظيراً فظاً للعنصرية وتبريراً فجاًً للنهب الاستعماري.
وطبقاً لهذه النظرية التي لخصها المرحوم مالتس في مقال رديء نشره تحت عنوان «زيادة السكان وأثارها في تحسين المجتمع المقبل»، فإن الفقر والغنى وعدم المساواة بين البشر «جزء من النظام الطبيعي للكون كما خلقه الله»، ومن ثم فإنه من «الكفر» أن يحاول الناس تغيير أوضاعهم الطبقية والاجتماعية التي ولدوا عليها!!
ويمضي القس المهووس بشرح نظريته عن مخاطر إطلاق حرية البشر خصوصا الشعوب الفقيرة، في التناسل والتوالد بغير قيود، فيخترع قاعدة تقول إن سكان العالم سوف يتزايدون بمتوالية هندسية بينما إنتاج الطعام ينمو بمتوالية حسابية فقط، وانتهى من ذلك إلى نتيجة مؤداها أن من الضروري التمييز بين الناس على أساس أن بعضهم جدير بالحياة والبعض الآخر لا مفر من إبادته كشرط لرفاه وسعادة الباقين!!
وقد دعا مالتس صراحة إلى «عدم مقاومة الكوارث من مجاعات وأوبئة وحروب» لأنها تحافظ على التوازن الطبيعي وتستأصل «زوائد بشرية» لا لزوم لها!!
بل إنه اقترح، إذا غابت الكوارث والأوبئة، اللجوء إلى «تعقيم» الفقراء بالقوة حتى لا يتناسلون!!
وتلاحظ عزيزي القارئ أنني بدأت بالتشكيك في أن أحداً له حيثية في نظام الرئيس مبارك يعرف الأخ مالتس ونظرياته، لكنك إذا أعدت قراءة الفقرات السابقة فربما تظن مثلي أن النظام ربما وصل إلى الإيمان بالعقيدة «المالتسية» بغريزته بينما عقله، كما تعرف، في إجازة منذ خُلق!!.

0 comments
Post a Comment