

أتت لحظة الحقيقة في العراق، وصارت بغداد بين واحد من مصيرين لا ثالث لهما، فاما أن تقع - لا قدر الله- فريسة لاحتلال أمريكي أبدي الطابع، أو أن تكون غلظة الاتفاقية الأمنية المطروحة سببا في حشد جهد عراقي عام وراء المقاومة المسلحة وحدها.
في السنوات الخمس التي مضت على غزو العراق، كانت فرص المناورة واردة، وتقاطع وتداخل الاتجاهات مرئيا، كان لأنصار المقاومة المسلحة منطقهم الحازم، وهو أن ما سلب بالقوة لا يسترد بغيرها، وأن المقاومة بالسلاح وحدها كفيلة بهزيمة الاحتلال الأمريكي، وكان لخط المقاومة المسلحة انجازاته العبقرية التي لا تنكر، فقد نجح في شل المقدرة الأمريكية على تحقيق الهدف، فلم تتمكن واشنطن - إلى الآن- من تحقيق هدفها في الاستيلاء على بترول العراق، وبالمقابل انزلقت أمريكا إلى خسائر فادحة بالمال وبالدم، وفقدت من جنودها ما قد يصل إلى خمسين ألف قتيل وجريح ومجنون، ونزفت من المال ما يزيد على 500 مليار دولار، دون أن تصل إلى تثبيت قواعد الاحتلال، ولا النجاة من غوائل الأرض المحروقة، اللهم الا وراء أسوار المنطقة الخضراء.
وباختصار: فقدت أمريكا المقدرة على تحقيق نصر حاسم، وصارت أدنى إلى هزيمة مستحقة، ووجدت نفسها تغوص أكثر في المستنقع العراقي، وتزيد من حجم قواتها وانفاقها بلا حدود، ووسط تذمر متزايد من الشعب الأمريكي، الذي لا يرى من القصة كلها غير الدم السيال والنعوش الطائرة ونزيف الأموال المستقطعة من دافعي الضرائب.
وبانتظار نهاية الوقت الممنوح للقوات متعددة الجنسيات - قوات الاحتلال- من الأمم المتحدة مع أواخر العام الجاري، تدور عجلة العد العكسي، وتتضاءل فرص لعبة ارتداء الأقنعة، فقد كان يمكن لعملاء أمريكا في العراق - وغيرهم- أن يدعوا وصلا بليلي وبهدف التحرير، وكان بعضهم يتحدث عن وجود مؤقت لقوات الاحتلال، وريثما تتم عملية بناء الجيش العراقي، وتمكينه من أداء المهام الأمنية، وعندها - كما زعموا- يمكن اجلاء القوات الأمريكية والأجنبية، وكان يمكن لبعض هؤلاء أن يدعوا بأفضلية المقاومة السياسية، وعدم التعجل بصدام إلى أن يفرجها الله! ولقي هذا المنطق المناور - على عواره- دعم عدد من مراجع السنة والشيعة، آية الله السيستاني مثلا - وهو أكبر مراجع شيعة العراق- كان يعطف على ادعاء المقاومة السياسية، وحزب الاخوان المسلمين في العراق (الحزب الإسلامي) دعم المنطق ذاته على اختلاف الهوى، وشارك في ما سمي بالعملية السياسية، وتحت ستار كثيف من دخان ادعاء التعقل، وفي لحظة الحسم بانت المواقف على حقيقتها، وأبدي الحزب الإسلامي تأييده للاتفاقية الأمنية المطروحة، وسقطت أوراق التوت عن العورات المكشوفة.
ودعك من التسميات المطروحة على اختلاف ألفاظها، فلا فرق أن يسمى الاتفاق الذي تفرضه واشنطن بالاتفاقية الأمنية، أو باعلان المبادئ، فظاهر الحال - وباطنه- أن المطلوب تكريس السيادة الأمريكية في العراق، وعلى حساب سيادة العراق التي لا وجود لها أصلا، اللهم الا في حكومة دمى أو برلمان على سبيل استكمال الديكور، فالاتفاقية تفرض دوام ما كان يتصور أنه موقوت، وتبقى القوات الأمريكية في نقاط ارتكاز أو قواعد قد يصل عددها إلى خمسين كما قال تقرير الاندبندنت البريطانية، ولا يهم الرقم، وسواء أكان أربع عشرة أو أربعين قاعدة كما قالت مصادر أخرى للتخفيف، فان النتيجة واحدة، واختلاف الأرقام موصول فقط باعتبارات لوجستية محضة، ولا يخل بتعميم قواعد الارتكاز في جغرافيا العراق جميعها.
ثم أن هذه القوات - في كل حال- تظل طليقة الحركة، وأعمالها في الاعتقال والقتل محصنة من أي سؤال أو مؤاخذة، وكذا أعمال الشركات الأمنية الرديفة لقوات الاحتلال من نوع بلاك ووتر، وليست موقوفة في عملها وتحركها على اذن من الحكومة العراقية، فوق أن أجواء العراق جميعا تظل مفتوحة مستباحة للطيران العسكري الأمريكي، وموضع تحكم شامل، وكذا منافذ البحر والطرق البرية، أي أن المعادلة ستظل كما هي الآن، حكومة بلباس عراقي تحتمي بالجيش الأمريكي، وتستهدي بأوامره، وانتخابات واستفتاءات عبثية، وتكريس لانفصال الشمال الكردي، ودفع قيادات الأكراد - الأكثر ولاء للأمريكيين- إلى مراكز التحكم في حكومة مركزية تظل من ورق.
وصيغة كهذه لا تعني الانتقال من احتلال إلى وصاية كما يقال، بل تعني انتقالا من احتلال موقوت إلى احتلال مؤبد، والمريب أن البعض يقيس ما يتوقع في العراق - مع الاتفاقية- على ما جرى في اليابان، ودون وعي باختلاف الظروف كليا، فقد كانت اليابان في وضع المحارب لأمريكا حتى صدمة بيرل هاربور، ولم يكن ذلك وضع العراق، ثم ان اليابان استسلمت بأمر امبراطورها المقدس، وأعلنت هزيمتها بعد رعب الاكتساح الذري في هيروشيما وناغازاكي، ولم يحدث ذلك في العراق، بل حدث العكس في سيرة صدام حسين الذي أعدم على حبل مشنقة، ودون أن يعترف بهزيمة.
وفي اليابان جرى فرض دستور ماك آرثر كما فرض دستور بول بريمر على حكومات الدمى، وليس على العراق الذي ظل يقاوم، ثم انه ليس في اليابان موارد طبيعية تتطلع أمريكا إلى نهبها كما بترول العراق، وظلت القواعد الأمريكية في اليابان معزولة بالجغرافيا ناحية أوكيناوا، ودون أدنى تدخل في تفاعلات الداخل الياباني، ولمجرد استخدامها في ترتيبات استراتيجية ضد الاتحاد السوفييتي سابقا أو ضد الصين حاليا، اذن فالقياس على اليابان يبدو فاسدا بالجملة، أضف إلى ذلك اختلاف العراق جغرافيا وتاريخيا، فالعراق جزء من محيط عربي إسلامي زاخر بمشاعر العداء للأمريكيين، وليس معزولا كجزر اليابان على هامش القارة الآسيوية، والمحصلة - فوق القياس الفاسد- أن ما جرى في اليابان غير قابل للتكرار في العراق، وأن طبيعة الصراع هنا حدية وليست نسبية كما في الشرق الآسيوي.
وربما لذلك يبدو الاستقطاب - بمناسبة الاتفاقية الأمنية- على أشده، ولا تبدو من فرصة مضافة لاتصال المراوغة، فلم يعد من معنى - أو غطاء- لدعوى المشاركة في عملية سياسية منزوعة السيادة كليا، والجديد: أن نزع السيادة - مع الاتفاقية- صار أبديا، وهو ما يعني أن ما يسمى العملية السياسية - بالتعبيرات العراقية الجارية- ليس سوى دعوة للنوم السياسي تحت أحذية عسكر الاحتلال، بينما صار للمقاومة السياسية معنى وحيد منفصل عن أوهام العملية السياسية اياها، وأقرب إلى دعم المقاومة المسلحة، فالاتفاقية - على عوارها الظاهر- توفر فرصة نادرة لتأليف وطنية عراقية جديدة جامعة، بيانات الرفض الأولى حملت تواقيع أسماء بارزة من كل طوائف وقوميات وجهات العراق، وانشقاقات الشيعة ظاهرة خصوصا مع رفض أبداه المركز الايراني، الجعفري - رئيس الحكومة السابقة- انشق عن حزب الدعوة الذي يجمعه مع نوري المالكي، وأسس ما يسمى تيار الاصلاح، وعلى قاعدة المعارضة لترتيبات الاتفاقية الأمنية، وتيار الصدريين يحصل على دعم أكبر من طهران، ويبدو - بقاعدته الشعبية الواسعة- في موقف المعارضة المؤثرة، وحزب البعث وحلفاؤه في موقف الرفض بالطبيعة، وجبهة علماء المسلمين في الموقف ذاته، ربما الفرق في التفاوت على تقدير حجم الخطر الايراني، فالجماعات ذات المنشأ الشيعي تبدو أقل حساسية تجاه ايران، أو ميالة للتحالف معها، بينما الجماعات ذات المنشأ أو الثقل السني - علماء المسلمين وحزب البعث إلى حد ما- ضد التغول الايراني في العراق، لكنها تختلف عن جماعات السنة الحليفة للاحتلال في نقطة فارقة، وهي تحديد العدو الأولى بالمواجهة الآن، فثمة من يروج في أوساط السنة لضرورة الاحتماء بالأمريكيين من الخطر الايراني، والمقاومون في موقف مختلف، فهم يعطون الأولوية لمواجهة الاحتلال الأمريكي، وقد سمعت من الشيخ الجليل حارث الضاري - في لقاء مباشر- تعبيرا موحيا بنكهة عراقية فواحة، فقد شبه الوضع الاحتلالي الحاضر للعراق بنخلة حطت عليها طيور الشؤم، وهو يرى في النفوذ الايراني طيرا أسود حط على نخلة الاحتلال الأمريكي، وأن الأولوية لقطع واقتلاع النخلة ومن جذورها، والتشبيه في بلاغته وايجازه يغني عن مزيد من الشروح.
باختصار: ثمة فرصة لجمع المقاومة بالسلاح إلى المقاومة بالسياسة في حركة تحرر وطني عراقي جامعة، وعلى قاعدة الرفض المطلق لاتفاقية تأبيد الاحتلال الأمريكي.
0 comments
Post a Comment