
الإجماع الوطني بين الاستمرارية والانقطاع
يتصور كثيرون في الوطن العربي أن "نظام التعددية السياسية الفعال" الذي هو درجة متقدمة من درجات الحكم الديمقراطي، ويعبر عنه عادة ب"المشاركة السياسية" يمكن أن يحدث تأثيرات سلبية في عملية التماسك السياسي في بنية السلطة داخلياً، ويحول دون تحقيق الإجماع الوطني المطلوب حول حزمة المصالح الوطنية العليا. ويعتقد هؤلاء أن التفرد ضمن الدائرة الضيقة هو الذي يحقق أعلى درجة من التماسك السياسي، ويؤمن الإجماع الوطني حول تلك المصالح. وبسبب هذا الاعتقاد الخاطئ يجري تبرير أرجحية احتكار السلطة أو على الأقل احتكار القرار السياسي داخل إطار تلك الدائرة المغلقة لتلك النخبة الحاكمة.
ربما يكون هذا الاعتقاد صحيحاً جزئياً وعلى المدى القصير، فأحادية السلطة من دون إطلاق التعددية وتأمين "دوران النخبة" عبر التداول، يمكن أن توفر إجماعاً سياسياً وطنياً حول مجموعة من السياسات العليا، لكن هذا الاجماع يبقى، في واقع الأمر، محصوراً ومحدوداً بالدائرة المغلقة لتلك النخبة الحاكمة، من دون أن يمتد الى الدوائر الأوسع، أي انه لن يرقى إلى مستوى "الإجماع الوطني" الذي يشمل القاعدة الأوسع للنخب المثقفة، كما أنه يبقى مقيداً زمنياً بوجود تلك النخبة الحاكمة على رأس السلطة، وعادة ما ينهار بسقوط تلك النخبة لسبب أو لآخر، وعندها يختفي هذا الإجماع المقيد والمحدود بمجيء نخبة أخرى إلى رأس السلطة لتبدأ، من جديد، مشوارها هي في الحكم وفي تحديد الخيارات الاستراتيجية الوطنية. والنتيجة هي غياب الاستمرارية، أي استمرارية الاجماع حول حزمة المصالح العليا الوطنية الحيوية والاستراتيجية.
أما في حالة التعددية السياسية الفعالة والمشاركة السياسية الوطنية النشطة، فإن الإجماع الوطني يتمتع بقاعدة أوسع ودوائر ممتدة وغير محدودة، لدخول كل الأطراف والقوى السياسية، أو على الأقل أغلبها في صياغة وبلورة ذلك الإجماع والتوافق الوطني العريض حوله، وعندما تتغير النخبة الحاكمة وتأتي نخبة أخرى جديدة، ضمن مسار ديمقراطي حقيقي يؤمن ويحقق دورة النخبة وتداول السلطة، يبقى الإجماع قائماً لأن من ذهبوا ومن جاؤوا كانوا شركاء في صياغة ذلك الإجماع والتوافق حوله.
في النموذج الأمريكي، والكثير من النماذج الأوروبية شديدة الدلالة، يأتي رئيس ويذهب آخر، ويأتي برلمان ويذهب آخر، ويأتي حزب ويذهب آخر، لكن تبقى الرؤى والتوجهات الاستراتيجية مستمرة ومتواصلة، ويبقى تعريف المصالح العليا الحيوية والاستراتيجية ممتداً من دون انقطاع، بسبب ما يحدث من تداول ودوران للنخب الحاكمة في تلك البلاد. المصالح هي المصالح والرؤى الاستراتيجية هي الرؤى الاستراتيجية. قد تختلف السياسات وقد تتعدد الاجتهادات بالتغير الذي يحدث في النخبة الحاكمة بمجيء نخبة وذهاب أخرى، ولكن يبقى الاجماع قائماً ومستمراً بلا انقطاع أو تغير حاد حول الإجماع الوطني، لأنه بالفعل إجماع وطني وليس مجرد إجماع ضمن الدائرة المغلقة للنخبة الحاكمة، وبالزمن الذي تبقى فيه تلك النخبة مسيطرة على القرار السياسي.
وبسبب الثقة في وجود هذا الإجماع الوطني حول المصالح الوطنية العليا الحيوية والاستراتيجية، يتحدث كثيرون الآن عن حقيقة شبه مؤكدة، تقول ان مجيء إدارة أمريكية جديدة على رأسها باراك أوباما لن يغير كثيراً من التوجهات الاستراتيجية الأمريكية، طالما أن الإجماع ممتد حول تعريف المصالح الوطنية العليا، وما يمكن ان يتغير هو السياسات والتكتيكات. فعلى سبيل المثال لن يتغير الموقف الأمريكي الرافض لامتلاك إيران برنامجاً نووياً متطوراً، يمكن ان يوفر لها فرصة امتلاك سلاح نووي، ما يمكن أن يتغير هو أن تأخذ إدارة أوباما بالحل الدبلوماسي النشط وغير المتردد، وأن تتخلى نهائياً عن الحل العسكري، الأمر نفسه ينطبق على الموقف من العراق، فإدارة أوباما ستحرص على ضمان وتأمين المصالح الأمريكية في العراق، ولكن عبر أدوات وسياسات غير خشنة وتؤمن انسحاب القوات الأمريكية وعودتها الى بلادها، كما أن الحرب الأمريكية في أفغانستان قد تستمر أيضاً في عهد أوباما، ولن تغير هذه الإدارة الدعم المطلق للكيان الصهيوني، لكنها ربما تسعى الى توفير حل يسترضي الدول العربية الحليفة من دون أن يسبب أي ضرر للمصالح العليا "الإسرائيلية".
هذا كله يحدث بسبب التوافق والإجماع الوطني حول المصالح الاستراتيجية، وهو توافق يصعب تحقيقه من دون تأمين التعددية السياسية النشطة، ومن دون حرية الفكر والحريات السياسية والإعلامية التي تؤمن بدورها أعلى درجات الشفافية في الوعي وفي القرار السياسي الوطني، ويصعب تحقيقه أيضاً من دون وجود مراكز بحثية متخصصة ونخبة فكرية وسياسية واسعة قادرة على توفير الأفكار والرؤى وتقديم الاجتهادات التي تساعد، من خلال الحوار والمناقشات الحرة والدراسات، على بلورة ذلك الإجماع وتحقيق التوافق الوطني حوله.
0 comments
Post a Comment