
ومع ذلك يعود المشروع اليوم أكثر إلحاحاً ليس لأسباب أيديولوجية بل لأسباب عملية خالصة، لدرء مخاطر التجزئة والتفتيت التي ضربت العراق والتي مازالت تهدد لبنان، والخطر الداهم أمام السودان والصومال على الأمد القريب وعلى كل المغرب العربي على الأمد البعيد من أجل لبننة وعرقنة وسودنة وصوملة الوطن العربي ككل. حتى تصبح إسرائيل أكبر دولة طائفية عرقية في المنطقة تأخذ شرعية جديدة من طبيعة الجغرافيا السياسية التي تعيش فيها بدلًا من أساطير "المعاد" و"شعب الله المختار" التي لم يعد يقبلها أحد. ولولا أن اليمن استطاع الحفاظ على وحدة شطريه في الشمال والجنوب لكان ضمن المقسَّمين. ولولا أن مصر لها كيانها التاريخي الموحد لما استطاعت الحفاظ على وحدتها أمام مخاطر التجزئة والتقسيم.
وعناصر التكامل كثيرة. في الزراعة وهي الأهم لحل مشكلة الغذاء في الوطن العربي واعتماده حتى الآن على الخارج، المياه متوافرة في السودان والعراق تكفي لإطعام ضعف الوطن العربي. والعمالة متوفرة في مصر. وقد كان فلاحو مصر يزرعون في العراق بالملايين قبل احتلاله وتدميره. ورؤوس الأموال في الخليج لتأسيس شركات زراعية للتسويق والنقل ولميكنة الزراعة وتجاوز أساليبها البدائية من أجل زيادة الإنتاج. وفي الصناعة، المعادن موجودة في مصر، والطاقة في الخليج، والأسواق العربية تكفي لاستيعاب كل المنتجات الصناعية. والعرب حاذقون في التجارة. وفي السياحة أراضي العرب مملوءة بالآثار منذ مصر القديمة وبابل وآشور وكنعان واليمن السعيد وسد مأرب ومملكة سليمان. وتاريخ العالم كله أو معظمه في الوطن العربي.
وليس من الصعب إجرائياً تحقيق هذا التكامل المنشود. قد يتم بتقوية الجامعة العربية بحيث تكون لها سلطات أوسع. فتتحول إلى اتحاد الدول العربية كما تحولت منظمة الوحدة الأفريقية إلى الاتحاد الأفريقي، وكما تحولت المنظمات الأوروبية مثل السوق الأوروبية المشتركة ومنظمة الفحم والفولاذ إلى الاتحاد الأوروبي. لا يعني التكامل العربي إلغاء الدولة القُطرية وتحويلها إلى وحدة اندماجية. فمازالت تجربة الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا 1958- 1961 في الأذهان. لم تعش إلا ثلاث سنوات ثم حدث الانفصال. يمكن تصور نظام فيدرالي أشبه بالولايات المتحدة الأميركية أو جمهورية ألمانيا الاتحادية أو الجمهورية الإسبانية أو الجمهورية الإيطالية أو الاتحاد السوفييتي، يعطي للسلطة المركزية ما يعطي للسلطات المحلية. الدفاع والخارجية للسلطة المركزية وما سوى ذلك في أيدي السلطات القُطرية. فالوطن العربي متعدد الأعراق واللهجات والعادات والتقاليد والدخول. فالاتحاد الفيدرالي يبقي على التعددية ولا يضحي بالوحدة. يحافظ على سلطات الدول القُطرية ولا يلغي السلطة المركزية للدولة الفيدرالية. إنما تلغى الحدود لتنقل العرب، وصياغة "شنجن" عربية ومواصلات برية وبحرية وجوية عربية. ولقد كانت تربط العرب أيام الدولة العثمانية سكة حديد الحجاز بين الشام والحجاز، وسكة حديد فلسطين بين مصر والشام. تنقص المغرب العربي سكة حديد المغرب العربي من الدار البيضاء إلى بورسعيد، وسكة حديد السودان من الإسكندرية إلى جوبا.
مجلس التعاون الخليجي عن طريق تقوية الاتحاد المغاربي الذي يضم موريتانيا والمغرب والجزائر وتونس وليبيا ومصر والسودان، واتحاد وادي النيل الذي يضم مصر والسودان والصومال، واتحاد الشام الكبير الذي يضم الأردن وفلسطين وسوريا ولبنان والعراق. ومن السهل بعد ذلك ضم هذه الاتحادات الجزئية الأربعة في اتحاد عربي فيدرالي واحد. فاتحادات أربعة أفضل من اثنين وعشرين قطراً عربياً. واتحاد فيدرالي عربي واحد أفضل من اتحادات أربعة.
هذا الاتحاد العربي الواحد له من يسانده في دول الجوار. وهو بؤرة تجمع أفريقي آسيوي كبير يحيي منظمة تضامن شعوب آسيا وأفريقيا. ويكوّن قطباً ثانياً في مواجهة القطب الأول أو بين القطبين التقليديين بين الشرق والغرب. وهو شريك لأوروبا باعتباره على الشاطئ الجنوبي والشرقي للبحر الأبيض المتوسط وبالتالي يقوي استقلاله بعيداً عن جذب الأطلسي له. وتصبح أفريقيا وآسيا وأوروبا مركز الثقل الرئيسي في العالم كما كانت قبل اكتشاف نصف الكرة الغربي.
إن تكامل الوطن العربي ليس حلماً أو مشروعاً طوباوياً أو خيالياً كرد فعل على واقع التجزئة العرقية والطائفية الذي يهدد ما تبقى من عناصر وحدة في الوطن العربي. فريح التغيير تهب على العالم، وحركات الشعوب في الأفق. وروح الخمسينيات والستينيات قد تعود لتهب على الوطن العربي من جديد كي تحرره من الاستعمار الجديد وتغلغل الصهيونية وابتلاعها كل فلسطين. وتهب هذه المرة بعد أن تعلمت من تجارب الماضي. فقد أخذت فلسطين قدراً كبيراً من الجهد والمال. وانشغلت التجربة الأولى بتحرير ما تبقى من أوطان عربية محتلة في الجزائر وتونس وليبيا واليمن والخليج والسودان والصومال. ويمكن بناء الداخل في نفس الوقت الذي تتحرر فيه الأوطان من الاحتلال الخارجي.
العالم كله يتغير في الشرق وفي الغرب وفي الجنوب وفي الشمال والوطن العربي ليس استثناء من هذه القاعدة. ولا يستطيع الصمود أمام مهب الريح. فقد هبت الريح على روسيا، وبدأت تسترد عافيتها بعد انهيار المنظومة الاشتراكية في 1991. وبدأت تستعيد أنفاسها في آسيا وفي شرق أوروبا. والصين من ورائها تنتظر الوثوب السياسي بعد الوثوب الاقتصادي. وأميركا اللاتينية في الجنوب تصحو من جديد وتنتفض ضد العولمة والهيمنة للشمال. والبداية في فنزويلا وبوليفيا والبرازيل، ولكنها ليست النهاية. وقوى اليسار قادمة إلى أوروبا، وتنتقل من الشارع إلى السلطة، ومن المظاهرات الشعبية إلى النظم السياسية، فقد عصفت الأزمة المالية بالمعسكر الرأسمالي الذي لم يفق من الصدمة بعد. وبدأ يعي مقالب النظام الرأسمالي. والعولمة لم تستمر أكثر من عقدين من الزمان حتى بدأت تترنح.
يبدو أن روح العالم بدأت تتحرك من جديد. وكما بدأت من الشرق القديم، ومن الصين والهند وفارس ومصر القديمة وبابل وآشور وكنعان مروراً باليونان والرومان والعرب المسلمين حتى حطت في أوروبا وأميركا فإنها تعود من جديد لتهب على الشرق منتقلة من الغرب مروراً بالوطن العربي عائدة إلى الهند والصين. وهو ما يسمى لدى فلاسفة التاريخ المحدثين "ريح الشرق".
تكامل الوطن العربي إذن جزء من مساره التاريخي، ومرحلة في تطوره الطويل وقدره المستقبلي. فلا سياسة بلا تاريخ. ولا تنمية قصيرة دون تخطيط طويل
0 comments
Post a Comment