
الشيطان الرجيم لم يره أحد وإنما يستدل الناس على وجوده بالشرور والآثام والخطايا، ورغم هذه الحقيقة التي تقطع بأن الشياطين والشيطنة عموماً هي "معنى" وليست "مبنى" ولا كياناً يمكن تعيينه وإدراكه بالحواس، فإن الخيال الإنساني نحا باستمرار نحو تجسيده، واجتهد جيش جرار من المبدعين، على مر العصور والأزمان وفي بيئات وثقافات مختلفة، في محاولات لتصويره (بالوصف أحياناً وبالرسم غالباً) بملامح تفيض قبحاً وبشاعة.
ومن الصور الباقيات في مخيلتنا منذ بواكير أعمارنا تلك الصورة الشائعة في رسومات كتب الأطفال، حيث يسكن الشيطان ملامح إنسان مشوه له رأس يشبه ثمرة القلقاس ينبت على جانبيها قرنا تيس فيما عيناه حفرتان ناريتان يقدح منهما الشرر، والفم حفرة خربة ثالثة تنفرج عن نابين مروعين، أما باقي الجسم فأبرز معالمه بطن منتفخ ناتئ من تحت جلد شائك، وأظافر طويلة مقرفة تنفر من أصابع يدين معوجتين تقبض إحداهما باستمرار على حربة مخيفة تناظرها حربة أخرى ذات سن مدبب تتدلى كذيل من مؤخرة الشيطان المزعوم.
أكتب هذه السطور وأنا استعيذ بالله من الأبالسة والشياطين الزرق جميعاً، خصوصاً هؤلاء الذين ملأوا حياتنا وطينوا عيشتنا على مدى العقود الثلاثة الأخيرة، غير أن لهذا الكلام الشيطاني مناسبة مباشرة، فقد لاحظت بينما كنت أمر من أمام مبنى مجلس الشعب (العبد لله مضطر للمرور من هذا المكان مرات عدة كل أسبوع لأسباب تتعلق بمكان العمل) في اليوم التالي لقرار تمديد عمر حالة الطوارئ إلى ثلاثين عاماً، أن قلبي انقبض وخفق بقوة زلزلت كياني كله بمجرد أن وقع بصري على قبة المبنى الأنيق.
والحقيقة أنني حاولت المكابرة في البداية ورفضت الاعتراف بأن هذا الذي شعرت به هو أعراض خوف ورعب تشبه تماماً ما كنت أحس به في الأزمان الغابرة حينما أقترب من الأماكن التي كان يقال لنا إن العفريت أبورجل مسلوخة يسكن فيها، لكنى سرعان ما اعترفت بخوفي، وشغلني البحث عن تفسير له فلم أجد إلا نظرية "الارتباط الشرطي" التي هي واحدة من أشهر نظريات التحليل النفسي، فطبقاً لهذه النظرية فإن الإنسان يحتفظ في اللاوعي بعلاقة ارتباط بين التجارب والحوادث السيئة أو السعيدة التي مرت وبين أشياء وأماكن (أو حتى أشخاص) اقترن وجودهم بهذه الحوادث.
(ملحوظة: كتبت من قبل عن زهرة معينة رائعة لكني صرت أكرهها لأنها تذكرني بالسجن الذي عشت معها فيه شهوراً، أنا مسجون وهي مزروعة في إحدى زواياه).
وأعود لمجلس شارع قصر العيني الذي يحمل اسم الشعب زوراً وبهتاناً، فهو (ومن ثم مبناه) يكاد يكون مخزياً تتراكم بين جنباته وتحت قبته أسوأ ذكريات السنين السوداء الجميلة (27 سنة) التي مرت علينا حتى الآن منذ أهدتنا الأقدار نظام الرئيس حسنى مبارك الذي ظل يبادل الأغلبية الساحقة من أعضاء هذا المجلس تعييناً بتعيين، أي إن سيادته بقى مواظباً على تعيينهم نيابة عن الشعب، وفي المقابل فإن هؤلاء (على اختلاف أسمائهم وسحنهم) حافظوا على عادة رد الجميل للرئيس وتولوا نيابة عن الشعب أيضاً مهمة تجديد تعيين سيادته في نهاية مدة كل ولاية رئاسية!!
لكن دواعي الإنصاف والأمانة تقتضى التذكير بأن آلية "التعيين المتبادل" توقفت بعد التعديل الشيطاني للمادة 76 من الدستور، فمن يومها أصبح الرئيس هو الذي يعين نفسه بنفسه، فضلا عن استمراره في حمل عبء تعيين أغلبية نواب الشعب.
والشهادة لله فإن هذا التطور النوعي لم يؤثر في إخلاص هذا النوع من النواب للرئيس وحكومته ولجنة سياسات نجل سيادته، بل إن العكس هو ما حدث فعلاً، على ما يدل تفاقم ظاهرة البصم النيابي الفوري على كل ما يأتي من عند هؤلاء بغير تعديل ولا تبديل ولا حتى مناقشة.
ولما بدا، في الأسابيع الأخيرة بالذات، أن النظام قد فقد عقله وجن تماماً تحت وطأة أزمته المستحكمة واستفحال نفوذ "أطفال أنابيب" التوريث والبيزنس في قمة هرم الحكم، فإن الموقرين المزَوَرين لم يجدوا ما يسعفهم على مجاراة هذا الجنون، إلا أن يتقمصوا أرواح الشياطين. فأن تكون مجرد نائباً مزوَراً تختلس بغير حق مقعد تمثيل الشعب، لا يكفي للمشاركة المتحمسة في ارتكاب جريمة تمرير تشريع جنوني اشعل حريق أسعار كل ضرورات الحياة في وقت تقف فيه الأغلبية الساحقة من سكان هذا البلد على حافة الهلاك والموت جوعاً بعدما عز عليها حتى العيش الحاف!!
كما لابد أن تكون شيطاناً ابن شيطان ولم تذق طعم الضمير الإنساني قط، إذا أقدمت بعد أيام قليلة من هذه الفعلة النكراء على اقتراف جريمة بشعة أخرى (وبالحماس نفسه) تمثلت في البصم الفوري على قرار الرئيس مبارك مد حالة الطوارئ التي لم يحكم بدونها ساعة واحدة منذ جلوسه على عرش البلاد، لمدة عامين آخرين، بحجة اضطراب الأوضاع في الصومال والسودان ولبنان والعراق وباكستان وأفغانستان وإيران (فاتهم زلزال الصين الأخير) ما يبرر فرض الطوارئ في مصر (!!!)
أشعر عند هذا الموضع أنني بدأت أظلم الأبالسة والشياطين الأصليين الذين يحاول أغلب سكان مجلس شارع قصر العيني تقليدهم، بل لعلي أجزم أن أية مقارنة بين الفريقين ستكون نتيجتها لصالح الفريق الأول (الأصلي) على الأقل من الناحية الأخلاقية، وتكفي هنا الإشارة إلى أن الشيطان لا يدلس ولا يكذب، أو بالأحرى، لا يحتاج (لأسباب تتعلق بالكفاءة) للكذب خصوصا لو كان من النوع الخائب الفاضح الذي استعان به قطيع الموقرين لتبرير بصمهم على مد الطوارئ، إذ تبجحوا وقلعوا برقع الحياء ووجهوا التحية للحكومة لأنها "حافظت على عهدها ولم تستخدم الطوارئ في العدوان على الحريات"!!
وإذا تركنا الأخلاق جانباً فإن الشيطان أبوقرون وذيل قد يكون أقل تهوراً وغشماً وقسوة من تلاميذه في مجلس قصر العيني، فهو لو أتى شخصياً وجلس مكانهم على مقاعد التشريع، فغالباً قلبه لن يطاوعه أن يزيد على محرقة البؤس والجوع التي يتلظى الشعب المصري بنارها حالياً، خطة "التطهير العرقي" التي وضعها الأخ يوسف بطرس غالى نيابة عن لجنة سياسات نجل الرئيس، تحت اسم "قانون الضريبة العقارية" والذي سيؤدي تطبيقه إلى تهجير وتشريد أغلب سكان مصر وحرمانهم من نعمة الستر خلف جدران أي مأوى، وتكتمل به حلقات برنامج تقسيم المجتمع المصري إلى فسطاطين اثنين فقط، أولهما فسطاط جمال مبارك وصحبه المليارديرات ومن خلفهم قطيع حرامية الغسيل العاملون في خدمتهم، وهؤلاء هم وحدهم الذين يحق لهم الأكل والشرب والعيش الرغيد في القصور وامتطاء السيارات الفارهة، أما باقي المصريين فهم أسرى الفسطاط الثاني حيث لا أمل إلا انتظار الخلاص بالموت على قارعة الطريق بغير ستر ولا غطاء.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
0 comments
Post a Comment