
قيادة سابقة في الجامعة العربية: "أنا حزين للمستوى البائس الذي وصلت إليه الدبلوماسية المصرية"
فراغ الدور المصري، في أحوال ما بعد احتلال العراق، أدى إلى اندفاعتين: أولاهما، المنازعة مجدداً على القيادة الإقليمية، وثانيهما، أن بعض دول الأطراف وجدت في الفراغ فرصتها لتجاوز حجمها، وهذا ما فعلته ونجحت فيه قطر الأجواء متقلبة بين "الساخن" و"البارد" وألعاب السياسة تتجلى عند حافة النار.. في أسبوع واحد تغيرت بصورة دراماتيكية الأحوال اللبنانية من "صدامات شوارع" واحتمالات العودة مجدداً إلى حرب أهلية مهلكة إلى "صفقات سياسة" أنهت صفحة من "الصراع" وفتحت صفحة أخرى من "التوافق"، وفق صيغة "لا غالب ولا مغلوب"، وهي صيغة لبنانية معتادة تتواءم مع تركيب البلد المعقد طائفياً والحسابات الإقليمية والدولية المتحكمة فيه، وفي توقيت متزامن أزيح الستار عن مفاوضات سورية - إسرائيلية غير مباشرة برعاية تركية في "اسطنبول". وجاء الإعلان المتزامن مثيراً للتساؤلات، وجالباً للحيرة، حول ما إذا كان نجاح "مباحثات الدوحة" له صلة بتقدم ما في "مفاوضات اسطنبول".
بدا رئيس الوزراء الإسرائيلي "إيهود أولمرت" حريصاً على الإيحاء بمثل هذا الارتباط، أو أنه ليس محض تزامن، وهو ما قد يدحضه أن "مفاوضات اسطنبول" سبقت بنحو عام التدهور الخطير في الأزمة اللبنانية، وأن تلك المفاوضات، وإن قيل إنها أحرزت بعض التقدم وفق قاعدة "الأرض مقابل السلام"، لا يبدو أنها بصدد اختراق كبير أو توصل إلى اتفاق نهائي في مدى منظور - بحسب أغلب التوقعات الإسرائيلية.
بشكل أو بآخر قرر "إيهود أولمرت" أن يلعب - الآن وبلا إبطاء- بكل ما لديه من أوراق، وأن يباغت بعض شركائه في الحكومة بما توصل إليه من نتائج أولية في "مفاوضات اسطنبول"، لإرباك المسرح السياسي الإسرائيلي كله تخفيفا للضغوط المتصاعدة لإزاحته عن الحكم بما هو منسوب إليه من اتهامات جنائية تتعلق بتلقيه رشى.
وقد يصح ذات المعنى، مترجماً إلى التركية، عن الطرف الراعي للمفاوضات، فهناك مصلحة لرئيس الحكومة "رجب طيب أردوجان" في أن يبدو بصورة اللاعب الإقليمي المؤثر في لحظة تتهدده فيها، هو الآخر، أشباح إزاحته عن موقعه بحكم قضائي وفق تعقيدات اللعبة السياسية التركية التي ينص دستورها على علمانية الدولة.
"أولمرت" و"أردوجان" لهما مصلحة شخصية مباشرة في الكشف عن "مفاوضات اسطنبول" الآن، ولكن اللعبة تتجاوز تلك الحسابات الشخصية إلى اعتبارات استراتيجية أخطر وأهم، فإسرائيل تسعى إلى اختراق التحالف السوري الإيراني، وإبعاد دمشق عن دعم "حزب الله" و"حركة حماس"، وهي لا تخفي أهدافها وشروطها، فقد صاغتها وزيرة الخارجية الإسرائيلية "تسيبي ليفنى" بطريقة واضحة ومباشرة، وأكد عليها بذات العبارات وزير الدفاع "إيهود باراك"، والمعنى أن الذي تطلبه إسرائيل يتجاوز التفاوض على عودة الجولان إلى العصمة السورية وتفاصيل الخرائط، إلى إعادة ترتيب علاقات القوى والمصالح في المنطقة بما يعزل إيران ويدفعها للانكفاء داخل حدودها، مما قد يسهل تصفية الحساب معها تالياً، وإنهاء مشروعها النووي بأقل كلفة سياسية واستراتيجية.. وسوريا تبدو متنبهة لأخطار السقوط في "الكمين الإسرائيلي"، ولكنها حريصة - في الوقت ذاته- على توسيع نطاق مناوراتها الإقليمية، وفك سيناريوهات الحصار حولها، وتأكيد حقها المشروع في استعادة أراضيها المحتلة، دون أن يكون ثمن ذلك فض تحالفاتها، أو القفز في الهواء إلى المجهول!. و.. الراعي التركي حريص على أن يؤكد وزن بلاده الاستراتيجي والسياسي في منطقة مفعمة بالمخاطر، وأن أدواره فيها تنازع إيران النفوذ المستقبلي عليها. وليس بوسع أحد أن يقول إن مصر حاضرة في الملف السوري الإسرائيلي، أو أن لها كلمة نافذة فيه، أو أنها اطلعت في أي مرحلة من مراحل التفاوض غير المباشر عليه، فقد استقبلت الخبر كما استقبله القراء، ولم يكن أمامها غير أن تؤيد وتبارك، بنفس الصياغات التي أيدت وباركت بها "اتفاقية الدوحة"، بعد أن كانت تلعن أحد أطرافها وتتوقع الفشل لها، غابت عنها بصورة فاضحة أي تصورات أو حتى قاعدة معلومات، وبدت صحافتها مهووسة بشتائمها دون أن تبذل قدراً من الجهد في التعرف على حقائق ما يجري. ورغم كل ذلك فلا أحد، سورياً أو إسرائيلياً، يتوقع اختراقاً دراماتيكياً كبيراً في مدى منظور، وما حدث في اسطنبول أقرب إلى دوريات الاستكشاف، أو التعرف المباشر بمفاوضات غير مباشرة على حسابات الطرف الآخر، أو متانة تحالفاته الإقليمية، أو ما يمكن أن تندفع إليه الأحداث مستقبلاً، أو حدود التفاهم الممكن. سوريا تحاول أن تستكشف حدود الاستعداد الإسرائيلي للإقرار ﺒ"وديعة رابين"، أو أن تبدأ المفاوضات الجديدة من حيث انتهت المفاوضات السابقة.. وإسرائيل تحاول - بدورها- أن تستكشف المدى الذي يمكن أن تذهب إليه في الرهان على تفكيك التحالف السوري الإيراني، وإعادة صياغة اللعبة الإقليمية وفق حسابات جديدة إذا ما انتهت المفاوضات إلى اتفاق سوري إسرائيلي بعد أربعة عقود من احتلال الجولان.
وقد أراد "إيهود أولمرت" بالكشف عن "مفاوضات اسطنبول" في ذات توقيت نجاح "مباحثات الدوحة" أن يؤكد - بالمعنى والإلحاح عليه- أن إسرائيل موجودة في التفاعلات الإقليمية ومؤثرة فيها.. داخل بعض الأطراف اللبنانية، وتفاوضاً مع لاعب إقليمي له تأثيره الكبير على الأطراف اللبنانية الأخرى المناقضة لإسرائيل وأدوارها في لبنان والمنطقة. و.. سوريا لم تنف المباحثات في اسطنبول، وأكدتها، وأكدت معها أن الجولان حقها، وإسرائيل لا تتنازل بصورة مؤلمة أو غير مؤلمة عنها، فهي أرض سورية محتلة ولابد أن تعود - حسبما أعلن وزير الإعلام السوري- ولكن سوريا، فيما لم تعلنه، أرادت أن تؤكد دورها الإقليمي، وأنه لا يمكن تجاوزه حرباً أو سلماً، فهي لاعب رئيسي في لبنان، وثبت محوريته، وهي لاعب رئيسي - إلى ذلك ومعه- في المنطقة لها تحالفاتها الموثوقة والمختبرة، ولكنها قادرة على المناورة الإقليمية لفك الحصار عنها.
وقد بدا لافتاً عشية القمة العربية الأخيرة في دمشق أن لجنة التحقيق الدولية في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري أشادت في تقريرها لمجلس الأمن بالتعاون السوري، ولم تقدم أي انتقادات، مما اعتادت عليها في تقارير سابقة، لسوريا ونظامها السياسي، ولم يكن ممكناً أن تصدر تلك اللفتة الموحية بدلالاتها عن لجنة دولية يعتقد على نطاق واسع أن هدفها الرئيسي إحكام الحصار حول سوريا وزعزعة نظامها السياسي دون ضوء أخضر من الإدارة الأمريكية.. في التوقيت ذاته كانت مصر تعلن معارضتها للقمة وترفض المشاركة على المستوى الرئاسي فيها، وخفضت تمثيلها إلى ما دون وزير الخارجية. ثم بدا لافتاً وصلة ما سمى ﺒ"الغزل الدبلوماسي" بين وزيري خارجية السعودية وسوريا عبر الفضائيات قبل أن تنفض القمة، وبدت مصر معزولة في قصور حكمها لا تدرك ما يجري في كواليس المنطقة من مناورات وحسابات وصفقات سياسة ظواهرها لافتة!.
في الألعاب الإقليمية المستجدة يتجلى الحضور السوري والسعودي مؤثراً وطرفاً رئيسياً في المعادلات الإقليمية، كل على طريقته، ويتجلى الحضور الإيراني والتركي مباشراً وطامحاً للعب أدوار أكبر في إعادة صياغة المنطقة وتقاسم النفوذ والمصالح فيها، كل بحساباته ومصالح أمنه القومي تتقدمه. كل طرف يريد أن يقول، ويلح في القول: "أنا هنا"،. بل إن أطرافاً عربية، ينظر إليها تقليدياً باعتبارها على هامش تفاعلات المنطقة والقوى المؤثرة فيها، استطاعت أن توسع من هامش أدوارها وأن تتجاوز أحجامها.. فيما توارت مصر بحجمها وموقعها وما يفترض أن تحوزه من أدوار، والمقارنة بين الدورين "المصري" و"القطري" موجعة، فقطر بلد عربي صغير بحجمه، وأميره في كلمته الافتتاحية أمام مؤتمر المصالحة اللبنانية، اعترف بهذه الحقيقة، وأن بلاده لا تطمح لأدوار تتجاوز طاقاتها، ولكنه - عملياً- نجح في إدارة المفاوضات، والوصول بها إلى نجاح محقق، بصورة لا تقدر عليها إلا دولة إقليمية كبرى، وهناك الآن ثلاث اتفاقيات لبنانية منسوبة لمدن عربية - "اتفاقية القاهرة"، عندما كانت العاصمة المصرية مركز التفاعلات الإقليمية وقائدتها، و"اتفاقية الطائف"، وكانت مقدمة لدور سعودي مؤثر في الخريطة اللبنانية وتمهيداً لصعود ظاهرة رفيق الحريري، و"اتفاقية الدوحة" ولابد أن تعظم نتائجها من الدور الذي يمكن أن تلعبه دولة قطر في ملفات عربية أخرى.
و.. السؤال الآن: لماذا نجحت قطر وفشلت مصر في إدارة الأزمة اللبنانية..؟. السبب ببساطة أن القاهرة رهنت أوراقها في "السلة السعودية"، ولم تعمل - على أي نحو- في أن يكون لها موقف مستقل يتسق مع مصالحها وحجمها والرهان على دورها في المنطقة، وفي لبنان على وجه الخصوص، واقحمت نفسها دون مقتضى طرفاً في الصراع الداخلي، منحازة بصورة كاملة لأحد الأطراف فيه، ووصلت المأساة إلى ذروتها في الدوحة، إذ أخذت الدولة المصرية تتصل بممثلي جماعة (14 آذار) متجاهلة ممثلي الجماعة الأخرى، وسوريا وإيران، فيما كانت السعودية تتصل وتتفاوض وتصل إلى نتائج قد تغير من معادلات المسرح اللبناني في المدى المنظور.
بدت الدبلوماسية المصرية فقيرة في كفاءتها وخيالها، غير مدركة لحقائق الموقف في لبنان، وما يمكن أن تندفع الأحداث إليه، متجاهلة - وهذا هو الأخطر- مصالح أمنها الوطني. وبعض الروايات اللبنانية عن الأداء الدبلوماسي المصري في بيروت مخجل ومثير للشفقة للمدى الذي وصلنا إليه من تدهور، فلا شيء له قيمة يسند للدبلوماسية المصرية، فرطت في مواريث أدوار مصرية في عهود سابقة، مجاناً وبلا تريث وبلا عقل وبلا ضمير، عملت تحت الأفق الاستراتيجي الأمريكي والإسرائيلي، وعزفت عن التدخل الإيجابي في الأزمة، فيما نجحت قطر، رغم توتر علاقاتها مع السعودية ودخول أزمات معها من حين إلى آخر، وارتباطها بالاستراتيجية الأمريكية، ففيها أكبر قاعدة عسكرية أمريكية بمنطقة الخليج، ولديها مكتب تجارى إسرائيلي، ووزيرة الخارجية الإسرائيلية "تسيبي ليفنى" استقبلت سبعة من قيادات "محطة الجزيرة" في مقر إقامتها بالدوحة أثناء زيارة أخيرة، وهو ما يناقض وينتقص من قيمة المحطة ومصداقيتها في دعم غزة وأهلها لرفع الحصار عنها، بدت المواقف والعلاقات متضاربة، ولكن القيادة القطرية وظفتها للعب أدوار إقليمية تتجاوز حجمها، ونجحت في الحصول على الغطاء الإقليمي السعودي والسوري والإيراني معاً في المباحثات اللبنانية بالدوحة، فضلاً عن الغطاءات الأمريكية والفرنسية والأوروبية في الوقت ذاته.
بدت الدبلوماسية القطرية قادرة - بشكل أو بآخر- على أن توازن مواقفها، مندرجة في الاستراتيجية الأمريكية، لكنها منفتحة على الجوار الإيراني مستضيفة، في مشهد مثير، الرئيس أحمدي نجاد في قمة خليجية على أراضيها. وقد أدت هذه السياسة العملية، مدعومة من التأثير الكبير ﻟ"محطة الجزيرة" واتساع قاعدة مشاهديها بما يجاوز اﻟ(30) مليون مشاهد في كثير من الأوقات، إلى نجاح قطر في تجاوز وزنها الطبيعي في المنطقة. والإعلام المصري هنا متهم بالعجز والضعف وهو رديف لانهيار البلد، فمما لاشك فيه أن "دولة الجزيرة" هي التي أدارت المفاوضات، وأن الفرقاء اللبنانيين خاطبوا جمهورهم عبر شاشتها، وكانوا حريصين على ذلك، فهي الأكثر مشاهدة وتأثيراً، بينما الشاشة المصرية تكاد تختفي من "باقات" الفنادق والبيوت العربية باستثناء بعض المحطات الخاصة مثل "دريم".
وإذا نظرنا إلى خرائط المنطقة، فإنه يمكن ملاحظة انهيار الجناح الشرقي للأمة العربية ممثلاً في العراق، وفراغ سياسي واستراتيجي في القلب متمثلاً في غياب الدور المصري عن التأثير الفاعل في معادلات المنطقة، وفي الغرب تبدو الدولة العربية الأكبر فيه، وهي الجزائر، متخنة بجراحها الدموية من تداعيات وآثار حرب أهلية طويلة وقاتلة. في الفراغ الاستراتيجي تمددت إيران، وهذا حقها المشروع، وتحركت السعودية لمنازعتها على القيادة الإقليمية، واستثمرت إسرائيل الأحوال العربية المستجدة لدعم مشروعاتها في هضم الأراضي العربية المحتلة وتصفية القضية الفلسطينية والتطبيع المجاني مع العرب وبناء شرق أوسط جديد وتعاون إقليمي يؤكد قيادتها للمنطقة.
فراغ الدور المصري، في أحوال ما بعد احتلال العراق، أدى إلى اندفاعتين: أولاهما، المنازعة مجدداً على القيادة الإقليمية، وهذا حق مشروع، فللقيادة المصرية مواصفاتها واستحقاقاتها، وعندما تتخلى عنها فلا يحق لها أن تعاتب الآخرين، وثانيهما، أن بعض دول الأطراف وجدت في الفراغ فرصتها لتجاوز حجمها، وهذا ما فعلته ونجحت فيه قطر، ولا يحق لأحد أن يعاتبها، أو أن يقلل من شأنها، فقد نجحت فعلاً في الملف اللبناني، ومرشحة لنجاح آخر في الملف اليمنى لرأب الصدع بين حكومته والحوثيين، بل إن أطرافاً فلسطينية دعت قطر لاستضافة مصالحة فلسطينية.
وقد يقال إن الجفاء الشخصي بين الرئيسين المصري والأمريكي من أسباب عزل مصر عن الملفات الحساسة بالمنطقة، أو حصر دورها في الجوانب الأمنية والاستخباراتية، وفي شرم الشيخ تأكدت حالة الجفاء، فلم يستمع كلاهما إلى كلمة الآخر داخل قاعة الاجتماعات لمؤتمر "دافوس"، ومن يطالع الصحف المصرية الرسمية فربما يعتقد أن هناك أزمة في العلاقات المصرية الأمريكية، ولكن الحقيقة أن الجفاء الشخصي، وبعضه يعود إلى انتقادات بوش المعلنة لأوضاع الديمقراطية وحقوق الإنسان في مصر، لا تؤثر في اتباع الاستراتيجية الأمريكية، أو استقبال الوفود الإسرائيلية، أو تقبل إهانات الأخيرة، باعتقاد أن مصير الخلافة في مصر تحدده الولايات المتحدة، ولعل هذه المشكلة بالذات من وراء شل الدور الإقليمي المصري، وشل الوضع الداخلي، ودفع الأول إلى انهيار حقيقي والثاني إلى انفجار ينتظر شرارته.
وقد باغتتني شخصية عربية كبيرة عملت لفترات طويلة في أعلى المناصب القيادية بالجامعة العربية بجوار أمينها العام عمرو موسى بسؤال موجع: "ما الذي جرى للدبلوماسية المصرية.. وكيف أصبحت على هذه الصورة البائسة، رغم ما لديها من كفاءات ومواهب، أعرف قدرها بالاحتكاك المباشر فترة عملي في الجامعة العربية، ومن خلال المناصب الوزارية التي توليتها لاحقاً في بلادي"..؟، وبدا السؤال بلا جواب، أو أن الجواب بات يقرأ من عنوانه.
0 comments
Post a Comment